الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»
.تفسير الآيات (9- 16): {وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (9) إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً (10) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى (15) فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى (16)}قوله تعالى: {وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى} 20: 9 قال أهل المعاني: هو استفهام وإثبات وإيجاب معناه، أليس قد أتاك؟ وقيل: معناه وقد أتاك، قاله ابن عباس.وقال الكلبي: لم يكن أتاه حديثه بعد ثم أخبره. {إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً} 20: 10 قال ابن عباس وغيره: هذا حين قضى الأجل وسار بأهله وهو مقبل من مدين يريد مصر، وكان قد أخطأ الطريق، وكان موسى عليه السلام رجلا غيورا: يصحب الناس بالليل ويفارقهم بالنهار غيرة منه، لئلا يروا امرأته فأخطأ الرفقة- لما سبق في علم الله تعالى- وكانت ليلة مظلمة.وقال مقاتل: وكان ليلة الجمعة في الشتاء. وهب بن منبه: استأذن موسى شعيبا في الرجوع إلى والدته فأذن له فخرج بأهله وغنمه، وولد له في الطريق غلام في ليلة شاتية باردة مثلجة، وقد حاد عن الطريق وتفرقت ماشيته، فقدح موسى النار فلم تور المقدحة شيئا، إذ بصر بنار من بعيد على يسار الطريق {فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا 20: 10} أي أقيموا بمكانكم. {إِنِّي آنَسْتُ ناراً} أي أبصرت. قال ابن عباس فلما توجه نحو النار فإذا النار في شجرة عناب، فوقف متعجبا من حسن ذلك الضوء، وشدة خضرة تلك الشجرة، فلا شدة حر النار تغير حسن خضرة الشجرة، ولا كثرة ماء الشجرة ولا نعمة الخضرة تغيران حسن ضوء النار. وذكر المهدوي: فرأى النار- فيما روى- وهي في شجرة من العليق، فقصدها فتأخرت عنه، فرجع وأوجس في نفسه خيفة، ثم دنت منه وكلمه الله عز وجل من الشجرة. الماوردي: كانت عند موسى نارا: وكانت عند الله تعالى نورا. وقرأ حمزة {لأهله امكثوا} بضم الهاء، وكذا في {القصص}. قال النحاس هذا على لغة من قال: مررت بهو يا رجل، فجاء به على الأصل، وهو جائز إلا أن حمزة خالف أصله في هذين الموضعين خاصة. وقال: {امْكُثُوا} ولم يقل أقيموا، لان الإقامة تقتضي الدوام، والمكث ليس كذلك. و{آنَسْتُ} أبصرت، قاله ابن الاعرابي. ومنه قوله: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً} [النساء: 6] أي علمتم. وآنست الصوت سمعته، والقبس شعلة من نار، وكذلك المقياس. يقال: قبست منه نارا أقبس قبسا فأقبسني أي أعطاني منه قبسا، وكذلك اقتبست منه نارا واقتبست منه علما أيضا أي استفدته، قال اليزيدي: أقبست الرجل علما وقبسته نارا، فإن كنت طلبتها له قلت أقبسته.وقال الكسائي: أقبسته نارا أو علما سواء. وقال: وقبسته أيضا فيهما. {هُدىً} أي هاديا. قوله تعالى: {فَلَمَّا أَتاها} يعني النار {نُودِيَ} أي من الشجرة كما في سورة القصص أي من جهتها وناحيتها على ما يأتي: {يا مُوسى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ} [20: 11- 12]. قوله تعالى: {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً} 20: 12 فيه خمس مسائل:الأولى: قوله تعالى: {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ 20: 12} روى الترمذي عن عبد الله بن مسعود عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «كان على موسى يوم كلمه ربه كساء صوف وجبة صوف وكمة صوف وسراويل صوف وكانت نعلاه من جلد حمار ميت» قال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث حميد الأعرج حميد- هو ابن علي الكوفي- منكر الحديث، وحميد ابن قيس الأعرج المكي صاحب مجاهد ثقة، والكمة القلنسوة الصغيرة. وقرأ العامة {إني} بالكسر، أي نودي فقيل له يا موسى إني، واختاره أبو عبيد. وقرأ أبو عمرو وابن كثير وابن محيصن وحميد {أني} بفتح الالف بإعمال النداء. واختلف العلماء في السبب الذي من أجله أمر بخلع النعلين. والخلع النزع. والنعل ما جعلته وقاية لقدميك من الأرض. فقيل: أمر بطرح النعلين، لأنها نجسة إذ هي من جلد غير مذكى، قاله كعب وعكرمة وقتادة.وقيل: أمر بذلك لينال بركة الوادي المقدس، وتمس قدماه تربة الوادي، قاله علي بن أبي طالب رضي الله عنه والحسن وابن جريج.وقيل: أمر بخلع النعلين للخشوع والتواضع عند مناجاة الله تعالى. وكذلك فعل السلف حين طافوا بالبيت.وقيل: إعظاما لذلك الموضع كما أن الحرم لا يدخل بنعلين إعظاما له. قال سعيد بن جبير: قيل له طإ الأرض حافيا كما تدخل الكعبة حافيا. والعرف عند الملوك أن تخلع النعال ويبلغ الإنسان إلى غاية التواضع، فكأن موسى عليه السلام أمر بذلك على هذا الوجه، ولا تبالي كانت نعلاه من ميتة أو غيرها. وقد كان مالك لا يرى لنفسه ركوب دابة بالمدينة برا بتربتها المحتوية على الأعظم الشريفة، والجثة الكريمة. ومن هذا المعنى قول عليه الصلاة والسلام لبشير بن الخصاصية وهو يمشي بين القبور بنعليه: «إذا كنت في مثل هذا المكان فاخلع نعليك» قال: فخلعتهما. وقول خامس: إن ذلك عبارة عن تفريغ قلبه من أمر الأهل والولد. وقد يعبر عن الأهل بالنعل. وكذلك هو في التعبير: من رأى أنه لابس نعلين فإنه يتزوج.وقيل: لان الله تعالى بسط له بساط النور والهدى، ولا ينبغي أن يطأ على بساط رب العالمين بنعله. وقد يحتمل أن يكون موسى أمر بخلع نعليه، وكان ذلك أول فرض عليه، كما كان أول ما قيل لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {قُمْ فَأَنْذِرْ. وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ. وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ. وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر: 2- 3- 4- 5] والله أعلم بالمراد من ذلك.الثانية: في الخبر أن موسى عليه السلام خلع نعليه وألقاهما من وراء الوادي.وقال أبو الأحوص: زار عبد الله أبا موسى في داره، فأقيمت الصلاة فأقام أبو موسى، فقال أبو موسى لعبد الله: تقدم. فقال عبد الله: تقدم أنت في دارك. فتقدم وخلع نعليه، فقال عبد الله: أبا الوادي المقدس أنت؟! وفي صحيح مسلم عن سعيد بن يزيد قال: قلت لأنس أكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي في نعلين قال: نعم. ورواه النسائي عن عبد الله بن السائب: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم الفتح فوضع نعليه عن يساره.وروى أبو داود من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: بينما رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي بأصحابه، إذ خلع نعليه فوضعهما عن يساره، فلما رأى ذلك القوم ألقوا نعالهم، فلما قضى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصلاة قال: «ما حملكم على إلقائكم نعالكم» قالوا: رأيناك ألقيت نعليك فألقينا نعالنا. فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن جبريل أتاني فأخبرني أن فيهما قذرا» وقال: «إذا جاء أحدكم المسجد فلينظر فإن رأى في نعليه قذرا أو أذى فليمسحه وليصل فيهما». صححه أبو محمد عبد الحق. وهو يجمع بين الحديثين قبله، ويرفع بينهما التعارض. ولم يختلف العلماء في جواز الصلاة في النعل إذا كانت طاهرة من ذكي، حتى لقد قال بعض العلماء: إن الصلاة فيهما أفضل، وهو معنى قوله تعالى: {خذوا زينتكم عند كل مسجد} [الأعراف: 31] على ما تقدم.وقال إبراهيم النخعي في الذين يخلعون نعالهم: لوددت أن محتاجا جاء فأخذها.الثالثة: فإن خلعتهما فاخلعهما بين رجليك، فإن أبا هريرة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذا صلى أحدكم فليخلع نعليه بين رجليه».وقال أبو هريرة للمقبري: أخلعهما بين رجليك ولا تؤذ بهما مسلما. وما رواه عبد الله بن السائب رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام خلعهما عن يساره فإنه كان إماما، فإن كنت إماما أو وحدك فافعل ذلك إن أحببت، وإن كنت مأموما في الصف فلا تؤذ بهما من على يسارك، ولا تضعهما بين قدميك فتشغلاك، ولكن قدام قدميك. وروي عن جبير بن مطعم أنه قال: وضع الرجل نعليه بين قدميه بدعة.الرابعة: فإن تحقق فيهما نجاسة مجمع على تنجيسها كالدم والعذرة من بول بني آدم لم يطهرها إلا الغسل بالماء، عند مالك والشافعي وأكثر العلماء، وإن كانت النجاسة مختلفا فيها كبول الدواب وأوراثها الرطبة فهل يطهرها المسح بالتراب من النعل والخف أو لا؟ قولان عندنا. وأطلق الاجزاء بمسح ذلك بالتراب من غير تفصيل الأوزاعي وأبو ثور. وقال أبو حنيفة: يزيله إذا يبس الحك والفرك، ولا يزيل رطبه إلا الغسل ما عدا البول فلا يجزئ فيه عنده إلا الغسل.وقال الشافعي: لا يطهر شيئا من ذلك كله إلا الماء. والصحيح قول من قال: إن المسح يطهره من الخف والنعل، لحديث أبي سعيد. فأما لو كانت النعل والخف من جلد ميتة فان كان غير مدبوغ فهو نجس باتفاق، ما عدا ما ذهب إليه الزهري والليث، على ما تقدم بيانه في سورة النحل. ومضى في سورة براءة القول في إزالة النجاسة والحمد لله.الخامسة: قوله تعالى: {إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً} 20: 12 المقدس: المطهر. والقدس: الطهارة، والأرض المقدسة أي المطهرة، سميت بذلك لان الله تعالى أخرج منها الكافرين وعمرها بالمؤمنين. وقد جعل الله تعالى لبعض الأماكن زيادة فضل على بعض، كما قد جعل لبعض الأزمان زيادة فضل على بعض، ولبعض الحيوان كذلك. ولله أن يفضل ما شاء. وعلى هذا فلا اعتبار بكونه مقدسا بإخراج الكافرين وإسكان المؤمنين، فقد شاركه في ذلك غيره. و{طُوىً} اسم الوادي عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما.وقال الضحاك: هو واد عميق مستدير مثل الطوى. وقرأ عكرمة: {طوى}. الباقون {طُوىً}. قال الجوهري: {طُوىً} اسم موضع بالشام، تكسر طاؤه وتضم، ويصرف ولا يصرف، فمن صرفه جعله اسم واد ومكان وجعله نكرة، ومن لم يصرفه جعله بلدة وبقعة وجعله معرفة.وقال بعضهم: {طُوىً} مثل {طوى} وهو الشيء المثنى، وقالوا في قوله: {الْمُقَدَّسِ طُوىً}: طوي مرتين أي قدس.وقال الحسن: ثنيت فيه البركة والتقديس مرتين. وذكر المهدوي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه قيل له: {طُوىً} لان موسى طواه بالليل إذ مر به فارتفع إلى أعلى الوادي، فهو مصدر عمل فيه ما ليس من لفظه، فكأنه قال: {إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ} 20: 12 الذي طويته طوى، أي تجاوزته فطويته بسيرك. الحسن: معناه أنه قدس مرتين، فهو مصدر من طويته طوى أيضا.قوله تعالى: {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ} 20: 13 أي اصطفيتك للرسالة. وقرأ أهل المدينة وأبو عمرو وعاصم والكسائي {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ 20: 13}. وقرأ حمزة {وأنا اخترناك}. والمعنى واحد إلا أن {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ 20: 13} ها هنا أولى من جهتين: إحداهما أنها أشبه بالخط، والثانية أنها أولى بنسق الكلام، لقوله عز وجل: {يا مُوسى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ 20: 11- 12} وعلى هذا النسق جرت المخاطبة، قاله النحاس. قوله تعالى: {فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى} 20: 13 فيه مسألة واحدة- قال ابن عطية: وحدثني أبي- رحمه الله- قال سمعت أبا الفضل الجوهري رحمه الله تعالى يقول: لما قيل لموسى صلوات الله وسلامه عليه: {فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى 20: 13} وقف على حجر، واستند إلى حجر، ووضع يمينه على شماله، وألقى ذقنه على صدره، ووقف يستمع، وكان كل لباسه صوفا. قلت: حسن الاستماع كما يجب قد مدح الله عليه فقال: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ} [الزمر: 18] وذم على خلاف هذا الوصف فقال: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ} الآية. فمدح المنصت لاستماع كلامه مع حضور العقل، وأمر عباده بذلك أدبا لهم، فقال: {وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ 20} [الأعراف: 204] وقال ها هنا: {فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى 20: 13} لان بذلك ينال الفهم عن الله تعالى. روى عن وهب بن منبه أنه قال: من أدب الاستماع سكون الجوارح وغض البصر، والإصغاء بالسمع، وحضور العقل، والعزم على العمل، وذلك هو الاستماع كما يحب الله تعالى، وهو أن يكف العبد جوارحه، ولا يشغلها. فيشتغل قلبه عما يسمع، ويغض طرفه فلا يلهو قلبه بما يرى، ويحصر عقله فلا يحدث نفسه بشيء سوى ما يستمع إليه، ويعزم على أن يفهم فيعمل بما يفهم.وقال سفيان بن عيينة: أول العلم الاستماع، ثم الفهم، ثم الحفظ، ثم العمل ثم النشر، فإذا استمع العبد إلى كتاب الله تعالى وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام بنية صادقة على ما يحب الله أفهمه كما يحب، وجعل له في قلبه نورا.قوله تعالى: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} فيه سبع مسائل:الأولى: اختلف في تأويل قوله: {لِذِكْرِي} فقيل: يحتمل أن يريد لتذكرني فيها، أو يريد لأذكرك بالمدح في عليين بها، فالمصدر على هذا يحتمل الإضافة إلى الفاعل وإلى المفعول.وقيل: المعنى، أي حافظ بعد التوحيد على الصلاة. وهذا تنبيه على عظم قدر الصلاة إذ هي تضرع إلى الله تعالى، وقيام بين يديه، وعلى هذا فالصلاة هي الذكر. وقد سمى الله تعالى الصلاة ذكرا في قوله: {فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9].وقيل: المراد إذا نسيت فتذكرت فصل كما في الخبر: «فليصلها إذا ذكرها». أي لا تسقط الصلاة بالنسيان.الثانية: روى مالك وغيره أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها فإن الله عز وجل يقول: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [20: 14]».وروى أبو محمد عبد الغني بن سعيد من حديث حجاج بن حجاج- وهو حجاج الأول الذي روى عنه يزيد بن زريع- قال حدثنا قتادة عن أنس بن مالك رضى الله عنه قال: سئل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الرجل يرقد عن الصلاة ويغفل عنها قال: «كفارتها أن يصليها إذا ذكرها» تابعه إبراهيم بن طهمان عن حجاج، وكذا يروي همام بن يحيى عن قتادة.وروى الدارقطني عن أبي هريرة رضى الله عنه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «من نسي صلاة فوقتها إذا ذكرها» فقوله: «فليصلها إذا ذكرها» دليل على وجوب القضاء على النائم والغافل، كثرت الصلاة أو قلت، وهو مذهب عامة العلماء وقد حكى خلاف شاذ لا يعتد به، لأنه مخالف لنص الحديث عن بعض الناس فيما زاد على خمس صلوات أنه لا يلزمه قضاء. قلت: أمر الله تعالى بإقامة الصلاة، ونص على أوقات معينة، فقال: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} الآية وغيرها من الآي. ومن أقام بالليل ما أمر بإقامته بالنهار، أو بالعكس لم يكن فعله مطابقا لما أمر به، ولا ثواب له على فعله وهو عاص، وعلى هذا الحد كان لا يجب عليه قضاء ما فات وقته. ولولا قوله عليه الصلاة والسلام: «من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها» لم ينتفع أحد بصلاة وقعت في غير وقتها، وبهذا الاعتبار كان قضاء لا أداء، لان القضاء بأمر متجدد وليس بالأمر الأول.الثالثة: فأما من ترك الصلاة متعمدا، فالجمهور أيضا على وجوب القضاء عليه، وإن كان عاصيا إلا داود. ووافقه أبو عبد الرحمن الأشعري الشافعي، حكاه عنه ابن القصار. والفرق بين المتعمد والناسي والنائم، حط المأثم، فالمتعمد مأثوم وجميعهم قاضون. والحجة للجمهور قوله تعالى: {أَقِيمُوا الصَّلاةَ} [الأنعام: 72] ولم يفرق بين أن يكون في وقتها أو بعدها. هو أمر يقتضي الوجوب. وأيضا فقد ثبت الامر بقضاء النائم والناسي، مع أنهما غير مأثومين، فالعامد أولى. وأيضا قوله: «من نام عن صلاة أو نسيها» والنسيان الترك، قال الله تعالى: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: 67] و{نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ} [الحشر: 19] سواء كان مع ذهول أو لم يكن، لان الله تعالى لا ينسى. وإنما معناه تركهم. و{ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها 10} [البقرة: 106] أي نتركها. وكذلك الذكر يكون بعد نسيان وبعد غيره. قال الله تعالى: {من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي} وهو تعالى لا ينسى فيكون ذكره بعد نسيان وإنما معناه علمت. فكذلك يكون معنى قوله: «إذا ذكرها» أي علمها. وأيضا فإن الديون التي للآدمين إذا كانت متعلقة بوقت، ثم جاء الوقت لم يسقط قضاؤها بعد وجوبها، وهي مما يسقطها الإبراء كان في ديون الله تعالى ألا يصح فيها الإبراء أولى ألا يسقط قضاؤها إلا بإذن منه. وأيضا فقد اتفقنا أنه لو ترك يوما من رمضان متعمدا بغير عذر لوجب قضاؤه فكذلك الصلاة. فان قيل فقد روى عن مالك: من ترك الصلاة متعمدا لا يقضي أبدا. فالإشارة إلى أن ما مضى لا يعود، أو يكون كلاما خرج على التغليظ، كما روي عن ابن مسعود وعلي: أن من أفطر في رمضان عامدا لم يكفره صيام الدهر وإن صامه. ومع هذا فلا بد من توفية التكليف حقه بإقامة القضاء مقام الأداء، وإتباعه بالتوبة، ويفعل الله بعد ذلك ما يشاء. وقد روى أبو المطوس عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «من أفطر يوما من رمضان متعمدا لم يجزه صيام الدهر وإن صامه» وهذا يحتمل أن لو صح كان معناه التغليظ، وهو حديث ضعيف خرجه أبو داود. وقد جاءت الكفارة بأحاديث صحاح، وفي بعضها قضاء اليوم، والحمد لله تعالى.الرابعة: قوله عليه الصلاة والسلام: «من نام عن صلاة أو نسيها» الحديث يخصص عموم قوله عليه الصلاة والسلام: «رفع القلم عن ثلاثة عن النائم حتى يستيقظ»والمراد بالرفع هنا رفع المأثم لا رفع الفرض عنه، وليس هذا من باب قوله: «وعن الصبي حتى يحتلم» وإن كان ذلك جاء في أثر واحد، فقف على هذا الأصل.الخامسة: اختلف العلماء في هذا المعنى فيمن ذكر صلاة فائتة وهو في آخر وقت صلاة، أو ذكر صلاة وهو في صلاة، فجملة مذهب مالك: أن من ذكر صلاة وقد حضر وقت صلاة أخرى، بدأ بالتي نسي إذا كان خمس صلوات فأدنى، وإن فات وقت هذه. وإن كان أكثر من ذلك بدأ بالتي حضر وقتها، وعلى نحو هذا مذهب أبي حنيفة والثوري والليث، إلا أن أبا حنيفة وأصحابه قالوا: الترتيب عندنا واجب في اليوم والليلة إذا كان في الوقت سعة للفائتة ولصلاة الوقت. فإن خشي فوات الوقت بدأ بها، فإن زاد على صلاة يوم وليلة لم يجب الترتيب عندهم. وقد روى عن الثوري وجوب الترتيب، ولم يفرق بين القليل والكثير. وهو تحصيل مذهب الشافعي. قال الشافعي: الاختيار أن يبدأ بالفائتة ما لم يخف فوات هذه، فإن لم يفعل وبدأ بصلاة الوقت أجزأه. وذكر الأثرم أن الترتيب عند أحمد واجب في صلاة ستين سنة فأكثر. وقال: لا ينبغي لاحد أن يصلي صلاة وهو ذاكر لما قبلها لأنها تفسد عليه.وروى الدارقطني عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال قال عليه الصلاة والسلام: «إذا ذكر أحدكم صلاة وهو في صلاة مكتوبة فليبدأ بالتي هو فيها فإذا فرغ منها صلى التي نسي» وعمر بن أبي عمر مجهول. قلت: وهذا لو صح كانت حجة للشافعي في البداءة بصلاة الوقت. والصحيح ما رواه أهل الصحيح عن جابر بن عبد الله: أن عمر يوم الخندق جعل يسب كفار قريش، وقال: يا رسول الله والله ما كدت أن أصلي العصر حتى كادت الشمس تغرب، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فو الله إن صليتها» فنزلنا البطحان فتوضأ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وتوضأنا فصلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ العصر بعد ما غربت الشمس، ثم صلى بعدها المغرب. وهذا نص في البداءة بالفائتة قبل الحاضرة، ولا سيما والمغرب وقتها واحد مضيق غير ممتد في الأشهر عندنا، وعند الشافعي كما تقدم.وروى الترمذي عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه: أن المشركين شغلوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن أربع صلوات يوم الخندق، حتى ذهب من الليل ما شاء الله تعالى، فأمر بالأذان بلالا فقام فأذن، ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ثم أقام فصلى المغرب، ثم أقام فصلى العشاء،. وبهذا أستدل العلماء على أن من فاتته صلوات، قضاها مرتبة كما فاتته إذا ذكرها في وقت واحد. واختلفوا إذا ذكر فائتة في مضيق وقت حاضرة على ثلاثة أقوال: يبدأ بالفائتة وإن خرج وقت الحاضرة، وبه قال مالك والليث والزهري وغيرهم كما قدمناه.الثاني- يبدأ بالحاضرة وبه قال الحسن والشافعي وفقهاء أصحاب الحديث والمحاسبي وابن وهب من أصحابنا.الثالث- يتخير فيقدم أيتهما شاء، وبه قال أشهب. وجه الأول: كثرة الصلوات ولا خلاف أنه يبدأ بالحاضرة مع الكثرة، قاله القاضي عياض. واختلفوا في مقدار اليسير، فعن مالك: الخمس فدون، وقد قيل: الأربع فدون لحديث جابر، ولم يختلف المذهب أن الست كثير.السادسة: وأما من ذكر صلاة وهو في صلاة، فإن كان وراء الامام فكل من قال بوجوب الترتيب ومن لم يقل به يقول، يتمادى مع الامام حتى يكمل صلاته. والأصل في هذا ما رواه مالك والدارقطني عن ابن عمر قال: «إذا نسي أحدكم صلاة فلم يذكرها إلا وهو مع الامام فليصل مع الامام فإذا فرغ من صلاته فليصل الصلاة التي نسي ثم ليعد صلاته التي صلى مع الامام» لفظ الدارقطني، وقال موسى بن هرون: وحدثناه أبو إبراهيم الترجماني، قال: حدثنا سعيد به ورفعه إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ووهم في رفعه، فإن كان قد رجع عن رفعه فقد وفق للصواب. ثم اختلفوا، فقال أبو حنيفة وأحمد بن حنبل: يصلى التي ذكر، ثم يصلي التي صلى مع الامام إلا أن يكون بينهما أكثر من خمس صلوات، على ما قدمنا ذكره عن الكوفيين. وهو مذهب جماعة من أصحاب مالك المدنيين. وذكر الخرقي عن أحمد بن حنبل أنه قال: من ذكر صلاة وهو في أخرى فإنه يتمها ويقضي المذكورة، وأعاد التي كان فيها إذا كان الوقت واسعا فإن خشي خروج الوقت وهو فيها أعتقد ألا يعيدها، وقد أجزأته ويقضي التي عليه.وقال مالك: من ذكر صلاة وهو في صلاة قد صلى منها ركعتين سلم من ركعتين، فإن كان إماما انهدمت عليه وعلى من خلفه وبطلت. هذا هو الظاهر من مذهب مالك، وليس عند أهل النظر من أصحابه كذلك، لان قوله فيمن ذكر صلاة في صلاة قد صلى منها ركعة أنه يضيف إليها أخرى ويسلم. ولو ذكرها في صلاة قد صلى منها ثلاث ركعات أضاف إليها رابعة وسلم، وصارت نافلة غير فاسدة ولو انهدمت عليه كما ذكر وبطلت لم يؤمر أن يضيف إليها أخرى، كما لو أحدث بعد ركعة لم يضف إليها أخرى.السابعة: روى مسلم عن أبى قتادة قال: خطبنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فذكر حديث الميضأة بطوله، وقال فيه ثم قال: «أما لكم في أسوة» ثم قال: «أما إنه ليس في النوم تفريط إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجئ وقت الصلاة الأخرى فمن فعل ذلك فليصلها حين ينتبه لها فإذا كان الغد فليصلها عند وقتها» وأخرجه الدارقطني هكذا بلفظ مسلم سواء، فظاهره يقتضي إعادة المقضية مرتين عند ذكرها وحضور مثلها من الوقت الآتي، ويعضد هذا الظاهر ما أخرجه أبو داود من حديث عمران بن حصين، وذكر القصة وقال في آخرها: «فمن أدرك منكم صلاة الغداة من غد صالحا فليقض معها مثلها». قلت: وهذا ليس على ظاهره، ولا تعاد غير مرة واحدة، لما رواه الدارقطني عن عمران ابن حصين قال: سرينا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غزاة- أو قال في سرية- فلما كان وقت السحر عرسنا، فما استيقظنا حتى أيقظنا حر الشمس، فجعل الرجل منا يثب فزعا دهشا، فلما استيقظ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمرنا فارتحلنا، ثم سرنا حتى ارتفعت الشمس، فقضى القوم حوائجهم، ثم أمر بلالا فأذن فصلينا ركعتين، ثم أمره فأقام فصلينا الغداة، فقلنا: يا نبي الله ألا نقضيها لوقتها من الغد؟ فقال لهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أينهاكم الله عن الربا ويقبله منكم».وقال الخطابي: لا أعلم أحدا قال بهذا وجوبا، ويشبه أن يكون الامر به استحبابا ليحرز فضيلة الوقت في القضاء. والصحيح ترك العمل لقوله عليه السلام: «أينهاكم الله عن الربا ويقبله منكم» ولان الطرق الصحاح من حديث عمران بن حصين ليس فيها من تلك الزيادة شي، إلا ما ذكر من حديث أبي قتادة وهو محتمل كما بيناه. قلت: ذكر الكيا الطبري في أحكام القرآن له أن من السلف من خالف قوله عليه الصلاة والسلام: «من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك» فقال: يصبر إلى مثل وقته فليصل، فإذا فات الصبح فليصل من الغد. وهذا قول بعيد شاذ. قوله تعالى: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى} [20: 15] آية مشكلة، فروي عن سعيد بن جبير أنه قرأ {أَكادُ أُخْفِيها 20: 15} بفتح الهمزة، قال: أظهرها. {لِتُجْزى} أي الإظهار للجزاء، رواه أبو عبيد عن الكسائي عن محمد بن سهل عن وقاء بن إياس عن سعيد بن جبير.وقال النحاس: وليس لهذه الرواية طريق غير هذا. قلت: وكذا رواه أبو بكر الأنباري في كتاب الرد، حدثني أبي حدثنا محمد بن الجهم حدثنا الفراء حدثنا الكسائي، ح- وحدثنا عبد الله بن ناجية، حدثنا يوسف حدثنا يحيى الحماني حدثنا محمد بن سهل. قال النحاس، وأجود من هذا الاسناد ما رواه يحيى القطان عن الثوري عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير أنه قرأ: {أَكادُ أُخْفِيها 20: 15} بضم الهمزة. قلت: وأما قراءة ابن جبير {أخفيها} بفتح الهمزة بالإسناد المذكور فقال أبو بكر الأنباري قال الفراء: معناه أظهرها من خفيت الشيء أخفيه إذ أظهرته. وأنشد الفراء لامرئ القيس:أراد لا نظهره، وقد قال بعض اللغويين: يجوز أن يكون {أُخْفِيها 20: 15} بضم الهمزة معناه أظهرها لأنه يقال: خفيت الشيء وأخفيته إذا أظهرته، فأخفيته من حروف الأضداد يقع على الستر والإظهار.وقال أبو عبيدة: خفيت وأخفيت بمعنى واحد، النحاس: وهذا حسن، وقد حكاه عن أبي الخطاب وهو رئيس من رؤساء اللغة لا يشك في صدقه، وقد روى عنه سيبويه وأنشد: كذا رواه أبو عبيدة عن أبي الخطاب بضم النون.وقال امرؤ القيس أيضا: أي أظهرهن. وروى: {من سحاب مركب} بدل {من عشي مجلب}.وقال أبو بكر الأنباري: وتفسير للآية آخر: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ 20: 15} انقطع الكلام على {أَكادُ 20: 15} وبعده مضمر أكاد آتي بها، والابتداء {أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ 20: 15} قال ضابئ البرجمي: أراد وكدت أفعل، فأضمر مع كدت فعلا كالفعل المضمر معه في القرآن. قلت: هذا الذي اختاره النحاس، وزيف القول الذي قبله فقال يقال: خفى الشيء يخفيه إذا أظهره، وقد حكى أنه يقال: أخفاه أيضا إذا أظهره، وليس بالمعروف، قال: وقد رأيت علي بن سليمان لما أشكل عليه معنى {أُخْفِيها 20: 15} عدل إلى هذا القول، وقال: معناه كمعنى {أُخْفِيها 20: 15}. قال النحاس: ليس المعنى على أظهر ولا سيما و{أُخْفِيها 20: 15} قراءة شاذة، فكيف ترد القراءة الصحيحة الشائعة إلى الشاذة، ومعنى المضمر أولى، ويكون التقدير: إن الساعة آتية أكاد آتي بها، ودل: {آتِيَةٌ} على آتي بها، ثم قال: {أُخْفِيها 20: 15} على الابتداء. وهذا معنى صحيح، لان الله عز وجل قد أخفى الساعة التي هي القيامة، والساعة التي يموت فيها الإنسان ليكون الإنسان يعمل، والامر عنده مبهم فلا يؤخر التوبة.قلت: وعلى هذا القول تكون اللام في {لِتُجْزى} متعلقة بـ {أُخْفِيها 20: 15}.وقال أبو على: هذا من باب السلب وليس من باب الأضداد، ومعنى {أُخْفِيها 20: 15} أزيل عنها خفاءها، وهو سترها كخفاء الا خفية وهي الأكسية والواحد خفاء بكسر الخاء ما تلف به القربة، وإذا زال عنها سترها ظهرت. ومن هذا قولهم: أشكيته، أي أزلت شكواه، وأعديته أي قبلت استعداءه ولم أحوجه إلى إعادته. وحكى أبو حاتم عن الأخفش: أن {كاد} زائدة موكدة. قال: ومثله {إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها 40} [النور: 40] لان الظلمات التي ذكرها الله تعالى بعضها يحول بين الناظر والمنظور إليه.وروى معناه عن ابن جبير، والتقدير: إن الساعة آتية أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى.وقال الشاعر: أراد فما يتنفس.وقال آخر: معناه: وألا أنجح بالذي نلت، فأكاد توكيد للكلام.وقيل: المعنى {أَكادُ أُخْفِيها 20: 15} أي أقارب ذلك، لأنك إذا قلت: كاد زيد يقوم، جاز أن يكون قام، وأن يكون لم يقم. ودل على أنه قد أخفاها بدلالة غير هذه على هذا الجواب. قال اللغويون: كدت أفعل معناه عند العرب: قاربت الفعل ولم أفعل، وما كدت أفعل معناه: فعلت بعد إبطاء. وشاهده قول الله عزت عظمته: {فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة: 71] معناه: وفعلوا بعد إبطاء لتعذر وجدان البقرة عليهم. وقد يكون ما كدت أفعل بمعنى ما فعلت ولا قاربت إذا أكد الكلام بأكاد.وقيل: معنى. {أَكادُ أُخْفِيها 20: 15} أريد أخفيها. قال الأنباري: وشاهد هذا قول الفصيح من الشعر: معناه: أرادت وأردت.وقال ابن عباس وأكثر المفسرين فيما ذكره الثعلبي: إن المعنى أكاد أخفيها من نفسي، وكذلك هو في مصحف أبي.وفي مصحف ابن مسعود: أكاد أخفيها من نفسي فكيف يعلمها مخلوق.وفي بعض القراءات: فكيف أظهرها لكم. وهذا محمول على أنه جاء على ما جرت به عادة العرب في كلامها، من أن أحدهم إذا بالغ في كتمان الشيء قال: كدت أخفيه من نفسي. والله تعالى لا يخفي عليه شي، قال معناه قطرب وغيره. والله أعلم وقال الشاعر: فكيف يخبرها بما تكتم نفسه. ومن هذا الباب قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه» الزمخشري وقيل معناه: أكاد أخفيها من نفسي، ولا دليل في الكلام على هذا المحذوف، ومحذوف لا دليل عليه مطرح، والذي غرهم منه أن في مصحف أبي: أكاد أخفيها من نفسي، وفي بعض المصاحف: أكاد أخفيها من نفسي فكيف أظهركم عليها. قلت: وقيل إن معنى قول من قال أكاد أخفيها من نفسي، أي إن إخفاءها كان من قبلي ومن عندي لا من قبل غيري. وروي عن ابن عباس أيضا: أكاد أخفيها من نفسي، ورواه طلحة بن عمرو عن عطاء.وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: لا أظهر عليها أحدا.وروى عن سعيد بن جبير قال: قد أخفاها. وهذا على أن كاد زائدة. أي إن الساعة آتية أخفيها، والفائدة في إخفائها التخويف والتهويل.وقيل: تعلق {لِتُجْزى} بقول تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ} فيكون في الكلام تقديم وتأخير، أي أقم الصلاة لتذكرني. {لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى} أي بسعيها. {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها} 20: 15. والله أعلم.وقيل: هي متعلقة بقوله: {آتِيَةٌ} أي إن الساعة آتية لتجزى {فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها} 20: 16 أي لا يصرفنك عن الايمان بها والتصديق لها. {مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى} 20: 16 أي فتهلك. وهو في موضع نصب بجواب النهي.
|